المناضل الفقيد ياسين ناشر
وداعا يا أخر عناقيد الماركسيية....!!
منصور السروري
***
اتصل بي قبل شهر رمضان، وتحدثنا أكثر من نصف ساعة عبر الهاتف، واذكر أني سجلت مكالمته...أتمنى العثور عليها وألا تكون قد انحذفت عندما فرمت الهاتف.
استصغرت نفسي أمامه....
رغم ظروفه الصحية من أمراض السكر، والمعدة، وغيرها، والنفسية سواء جراء انقطاع حقوقه المالية، والوظيفية المستحقة منذ أكثر من عقد، أو جراء آثار الحرب بانقطاع بقية الراتب، وظروفه المعيشية الصعبة، ومع ذلك تفاجئت به يتصل بي ليطمئن عني، ويؤكد اشتياقه لرؤيتي بعد سنوات ثلاث من افتراقنا حيث طرت من العاصمة على اثر تأكدي بمراقبة الحوافيش لكل تحركاتي حينها.
نعم استصغرت نفسي وأنا أرى رقم المناضل الطليعي اليساري والمثقف النوعي، والمستشار القانوني اﻷلمعي، اﻷديب والاعلامي الأستاذ ياسين ناشر.
هو الذي اتصل رغم كل الموانع التي تجعله لا يتذكرني بخياله، ولست أنا من اتصل به.
ياسين ناشر سكرتير الأستاذ عبدالله باذيب، وعلي عبد الرزاق باذيب.
من مؤسسي مجلة الثقافة الجديدة التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
كان مدير عام الشؤون القانونية بوزارة الاعلام عقب قيام دولة الوحدة 1990.
بعد حرب 1994 رفض أن يكون أداة تطوعها كما تشاء مافيا الاستخبارات التابعة لنظام صالح، ووصل الأمر الى حد المواجهة والاشتباك مع مطهر تقي وكيل وزارة الاعلام فلم يرضخ، وعندما تم استبقاءه ببيته براتب فقط محرد من مزايا استحقاقاته الوظيفية لم ييأس، واستخرج أحكاما بعد سنوات كانت لصالحه، لكن عندما يكون غريمك النظام الفاسد أين ستشتكي به؟...لهذا بقت أحكاما بيده تنتظر التنفيذ....حتى مل من حملها.
***
جدارته وضراعته القانونية جعلته يكتب عددا من المقالات قبل عقد ونصف العقد بصحيفة الثوري، لو جمعت لنافت عن كتاب مهم جدا كون تلك المقالات شاهدة على مرحلة مهمة من نظام ما بعد 1994 الفاسد الذي قاد البلاد والعباد الى ما نحن عليه اليوم.
وكانت مقالات الفقيد ياسين ناشر حينها واحدة من اهم التفسيرات القانونية والشروحات العميقة لطبيعة النظام الفاسد، وتجاوزاته للدستور والقوانين والأخلاق بسياسات لن تفضي الى بجر الوطن الى الضياع.
أتمنى العودة لارشيف صحيفة الثوري وغيرها من الصحف للتأكد من حقيقة ما أقوله بشأن كتابات الفقيد ياسين ناشر.
***
تألمت قبل عشر سنوات حينما كنت أسير معه بشارع هائل سعيد أنعم، وهو يقول لي بما أن لديك أصدقاء باحثين، وتعرف مؤسسات حقوقية وثقافية أن تعرض عليها استعدادي لبيع أرشيفي الذي جمعته محتويات وثائقه من نهاية الستينيات، وفيه وثائق بعضها تعود للاربعينيات للحركة الوطنية بمختلف مساراتها السياسية والنقابية والتاريخية بحكم عملي مدير تحرير لاكثر من مجلة ثقافية في الجنوب وبعد الوحدة.
نعم عرض علي بيع ارشيفه، تحت دافع الحاجة التي جعلت من عزة نفسه ألا يتقدم لوزارة الاعلام بطلب ما يستحقه من رعاية وحقوق، والا يستجدي أحدا من الناس المساعدة، وانما يعرض بيع مكتبته الثقافية، وارشيفه النادر كي يستطيع مواجهة التزاماته الخاصة، وربما للعلاج من العلل المرضية التي بدأت تتعدد أنواعها وتهاجم صحته وعمره بشراسة.
وطبعا وجدت صعوبة في العثور على من سيقدر ذلك الأرشيف الثمين، فصرفت النظر عن مجاراته ببيعه، على أمل أن نجد بدائل أخرى له لمواجهة مشاكله، وكنت قد بدأت أعرف بعض المراكز الحقوقية لقدراته القانونية كمستشار لها، الا أن اندلاع الحرب عام 2015 حالت دون ذلك.
***
لا يمكني أنسى أنه مع نهاية عام 2014 كان قد اختصني بالاطلاع على مذكراته الخاصة....
ووجدت فيها كنزا من المعلومات المهمة لا توثق لسيرته فحسب، وإنما لمحيط أوسع هو محيط وزارات الثقافة والاعلام بالجنوب والشمال، وبعد الوحدة فقد كان ياسين ضمن الذين عملوا بلجان الوحدة في فترة السبعينيات، والثمانينيات.
لهذا فمذكراته لا توثق لسيرته فقط، بل و تعتبر جزءا أصيلا ومن المراجع الخلفية المخفية لمسارات الوحدة اليمنية.
***
من أين ابدأ الكتابة عن ياسين ناشر...؟
وكيف سأنتهي منها، وأنا في اﻷصل لم ابدأ بعد الكتابة عنه..؟
ما هذه السطور الا اختزال سريع لبعض الملامح الخاصة بذاكرتي عن الفقيد الكبير ياسين ناشر.
ياسين العاشق عدن حد الثمالة.
العاشق للانعتاق والحرية.
ياسين القارئ بعقلية تاريخ هذا البلد.
أخر تلاميذ الشيوعيون الكبار....!
من كان اذا تحدث بمجمع او مجلس بشأن قضية ما إلا وصمتنا جميعا أمام قوة تحليلاته، وتوصياته العميقة.
كان من الثلة القليلة بهذا البلد الذين يعرفون أين تكمن مشاكل اليمن بجناحيه الجنوبي والشمالي، وأين تكمن الحلول.
للأسف الشديد لم تستثمر قدرات ياسين ناشر الفذة لا في القانون، ولا في الثقافة، ولا في الادارة، تعمدوا تهميشه، وظيفيا، ومنعته أصالته الفكرية والثقافية عن أن يسوق قدراته لدى الأحزاب فهو الشيوعي الماركسي الذي لا يمكن أن يكون الا ماركسيا أصيلا، ونقابيا
ثوريا فلذلك آثر العيش بصمت على أمل أن الغد سيولد أفضل بفجر صبي.
ولكنه رحل قبل أن يولد فجر الوطن الصبي.
وداعا يا أخر عناقيد الماركسية الفذة.
ستبقى ملامحك، ومآثرك فينا حية خالدة على الدوام.
اعذرني عن هذا الاجتزاء بالكتابة عنك لسببين الأول رحيلك المفاجئ، والأخر أني أكتب من هناك....من داخل جبهات الحجرية الصامدة في وجه الميلشيات الحوثية، وضد مشاريع الخراب الجديدة.
وعد لك ألا أنساك، وأن أكتب عنك ما يليق بك ما دمت ان شاء الله باقيا على قيد الحياة.
ياسين ناشر . . في ذمة اليسار والوطن
---------------------------------------
توفي الرفيق والصديق الغالي ياسين ناشر بعد غيبوبة ٤ ايام بجلطة دماغية في العناية المركزة في المستشفى الجمهوري .
كل الرفاق والأصدقاء الكثر والمثقفين تناسوا مثل هذه الهامة الرفيعة - لكونه لم يكن باحثا عن الأضواء ، ولم يكن نخاسا رخيصا يقبل على نفسه أن يكون مرتزقا .
يعد ياسين ناشر أحد أعظم نماذج حزب الاتحاد الشعبي الديمقراطي واحد قيادات الحزب الاشتراكي الى ماقبل احداث يناير١٩٨٦م. ، ويعد مثقفا موسوعيا عميقا لا تدركه إلى أن تجلس معه فيسحرك رأسه التحليلي العميق في بحور المعرفة ، ويمثل أحد الركائز الوثائقية للحركة الوطنية في الجنوب والشمال من قبل الاستقلال ، وهو المرجعية المؤرخة ( الفريد ) لحركة اليسار اليمني وتحديدا الباذيبيين منذ الاربعينيات ، كان المدير العام للدائرة القانونية لوزارة الثقافة لجرهوم ورئيسا لمجلة الثقافة الجديدة لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية إلى قيام الوحدة ( الهرولية ) ، انتقل ضمن عمليات التنقل الوظيفي إلى صنعاء كمدير عام لوزارة الثقافة ايام جار الله عمر - رغم أنه كان من المقاتلين لمسألة الوحدة اليمنية ، والتي اختلفنا حولها كثيرا في عدن معه وجار الله عمر والبيض وغيرهم ( حتى نهايات ١٩٨٩م.) ، بأفضلية الانتقال التدريجي لتوحيد مؤسس علميا وواقعية ، إلا أنه ماأن ياسين ناشر ومعه زوجته وابنته الوحيدة قد اذاقتهم الوحدة الاحتوائية أشد ألوان المر والعلقم ، فقد تجاهلوه الرفاق لموقفه النقدي الدائم وكذبة ونسيبه الزمرة - بينما عبر غيره من ذات الفخ كحسن شكري وغيره - مع معاناته وآلامه الذي أخذت بالتزايد من بعد ١٩٩٤ م. ، في غربته داخل مجتمع السلطة القبلية للدولة العميقة ، وتلذذ المنتفعين من اليسار والحزب بطوق الإذلال الساقط على ياسين ناشر ، الذي أظهرته الظروف بالمحتاج المترنح ماليا لدفع الإيجارات والعلاج والمعيشة آنذاك ، ولم يحني رأسه لصالح بعد ١٩٩٤م. او المرتزقة الحزب الاشتراكي من أصحاب القرار الحزبي . . ذوي العلاقات السرية مع نظام صالح ، بعد أن فرض عليه البطالة فذهب ليعمل محاميا فلم تكن له المهيئات لفتح مكتب ، تدارك من عرفهم من اليسار ك محمد المخلافي وغيره ، عومل بتجاهل لأمور فصائلية مورثية قديمة ، وظل يقاوم نزاعه المنسوج على نفسه وقلبه ورأسه من سلطة نظام صالح القبيح ومن زبانية اليسار الانتهازي الذي يغطي المشهد السياسي والاجتماعي منذ ذلك الوقت وحتى الآن باقبح صوره .
نعم صديقي الصامت الجبار - لم ولن تكن قليلا ، حتى وإن تجاهلك كل أذرع العفن - فأنت كنت رمزا مؤرقا لكل تاريخ النخاسة باسم الوطنية ، وكنت شوكة لا تلين في حلوق سلطات الأمر الواقع لإعادة إنتاج القديم الأبوي ، وتظل رمزا في مقدمة الصفوف - سيدركه المجتمع لاحقا - كفارس دون مثيل لك في الدفاع عن المدنية المجتمعية ، والتحول النظامي السلمي لبناء نظام رشيد لدولة المؤسسات المدنية .
رحمة الله عليك ، إذ بعثرني الالم على رحيلك دون وداع ، بعد أن اهتماما ظروف الحرب الكاذبة ، وتذهب لحصدنا الواحد تلو الآخر - رحمة الله عليك ، وعوائل لأسرته ولكل شريف عرف قدره ومن لم يعرفه . . واستشعار بالخسارة لرحيل مثل هذا الرمز الحقيقي المخفي برموز ورقية رخيصة في ظلال بقرة الوطنية الحلوب .